فصل: تفسير الآيات (20- 23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (20- 23):

{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)}
{يكاد البرق} يعني دلائل الإسلام تزعجهم إلى النظر لولا ما سبق لهم من الشقاوة كلمة أضاء لهم يعني المنافقين، وإضاءته لهم هو تركهم بلا ابتلاء ولا امتحان {مشوا فيه} يعني على المسالمة بإظهار كلمة الإيمان وقيل كلما نالوا غنيمة وراحة في الإسلام ثبتوا وقالوا إنا معكم، {وإذا أظلم عليهم قاموا} يعني إذا رأوا شدة وبلاء تأخروا {ولو شاء الله لذهب بسمعهم} أي بصوت الرعد {وأبصارهم} بوميض البرق. وقيل: أي لذهب بأسماعهم وأبصارهم الظاهرة كما أذهب أسماعهم وأبصارهم الباطنة {إن الله على كل شيء قدير} أي هو الفاعل لما يشاء لا منازع له فيه. قوله عزّ وجلّ: {يا أيها الناس} قال ابن عباس: يا أيها الناس خطاب لأهل مكة ويا أيها الذين آمنوا خطاب لأهل المدينة، وهو هنا خطاب عام لسائر المكلفين {اعبد وا ربكم} قال ابن عباس: وحدوا ربكم وكل ما ورد في القرآن من العبادة فمعناه التوحيد. وأصل العبودية التذلل والعبادة غاية التذلُّل ولا يستحقها إلاّ من له غاية الإفضال والإنعام وهو الله تعالى {الذي خلقكم} أي ابتداع خلقكم على غير مثال سبق {والذين من قبلكم} أي وخلق الذين من قبلكم {لعلكم} لعل وعسى حرفاً ترجّ وهما أي كل منهما من الله واجب {تتقون} أي لكي تنجوا من العذاب، وقيل معناه تكونوا على رجاء التقوى بأن تصيروا في ستر ووقاية من عذاب الله وحكم الله من ورائكم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد {الذي جعل لكم الأرض فراشاً} أي خلق لكم الأرض بساطاً ووطاء مذللة ولم يجعلها حزنة لا يمكن القرار عليها، والحزن ما غلظ من الأرض {والسماء بناء} أي سقفاً مرفوعاً قيل إذا تأمل الإنسان المتفكر في العالم وجده كالبيت المعمور فيه كل ما يحتاج إليه فالسماء مرفوعة كالسقف والأرض مفروشة كالبساط والنجوم كالمصابيح والإنسان كمالك البيت وفيه ضروب النبات المهيأة لمنافعه وأصناف الحيوان مصروفة في مصالحه، فيجب على الإنسان المسخر له هذه الأشياء شكر الله تعالى عليها {وانزل من السماء} يعني السحاب {ماء} يعني المطر {فأخرج به} أي بذلك الماء {من الثمرات} يعني من ألوان الثمرات وأصناف النبات {رزقاً لكم} أي وعلفاً لدوابكم {فلا تجعلوا لله أنداداً} يعني أمثالاً تعبد ونهم كعادته، والندّ المثل {وانتم تعلمون} يعني أنكم بعقولكم تعلمون أن هذه الأشياء والأمثال لا يصح جعلها أنداداً لله، وأنه واحد خالق لجميع الأشياء وأنه لا مثل له ولا ضد له.
قوله تعالى: {وإن كنتم في ريب} أي إن كنتم في شك لأن الله تعالى عليهم أنهم شاكون {مما نزلنا على عبد نا} أي محمد صلى الله عليه وسلم لما تقرر إثبات الربوبية لله سبحانه وتعالى وأنه الواحد الخالق وأنه لا ضد له ولا ندّ أتبعه بإقامة الحجة على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ما يدحض الشبهة في كون القرآن معجزة، وأنه من عند الله تعالى لا من عند نفسه كما تدّعون فيه، وقوله على عبد نا إضافة تشريف لمحمد صلى الله عليه وسلم وأن القرآن منزل عليه من عند الله سبحانه وتعالى {فأتوا} أمر تعجيز {بسورة} والسورة قطعة من القرآن معلومة الأول والآخر وقيل السورة اسم للمنزلة الرفيعة، ومنه سور البلد لارتفاعه، سميت سورة لأن القارئ ينال بها منزلة رفيعة حتى يستكمل المنازل باستكمال سور القرآن {من مثله} أي مثل القرآن، وقيل الضمير في مثله راجع إلى عبد نا، يعني من مثل محمد صلى الله عليه وسلم أميّ لم يحسن الكتابة ولم يجالس العلماء ولم يأخذ العلم عن أحد، ورد الضمير إلى القرآن أوجه وأولى ويدل عليه أن ذلك مطابق لسائر الآيات الواردة في التحدي وإنما وقع الكلام في المنزل ألا ترى أن المعنى وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فأتوا أنتم بسورة مما يماثله ويجانسه، ولو كان الضمير مردوداً إلى محمد صلى الله عليه وسلم لقال وإن ارتبتم في أن محمداً منزل عليه فهاتوا قرآناً مثل محمد صلى الله عليه وسلم، ويدل على كون القرآن معجزاً ما اشتمل عليه من الفصاحة والبلاغة في طرفي الإيجاز والأطالة فتارة يأتي بالقصة باللفظ الطويل ثم يعيدها باللفظ الوجيز ولا يخل بالمقصود الأول، وأنه فارقت أساليبه أساليب الكلام وأوزانه أوزان الأشعار والخطب والرسائل ولهذا تحديت العرب به، فعجزوا عنه وتحيروا فيه واعترفوا بفضله وهم معدن البلاغة وفرسان الفصاحة ولهم النظم والنثر من الأشعار والخطب والرسائل، حتى قال الوليد بن المغيرة في وصف القرآن: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وأن أصله لمغدق وإن أعلاه لمثمر {وادعوا شهداءكم من دون الله} أي استعينوا بآلهتكم التي تعبد ونها من دون الله والمعنى إن كان الأمر كما تقولون أنها تستحق العبادة فاجعلوا الاستعانة بها في دفع ما نزل بكم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وإلاّ فاعلموا أنكم مبطلون في دعواكم أنها إلهة. وقيل معناه وادعوا أناساً يشهدون لكم {إن كنتم صادقين} أن محمد صلى الله عليه وسلم تقوله من تلقاء نفسه.

.تفسير الآيات (24- 25):

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}
{فإن لم تفعلوا} أي فيما مضى {ولن تفعلوا} فيما بقي وهذه الآية دالة على عجزهم وأنهم لم يأتوا بمثله ولا بمثل شيء منه. وذلك أن النفوس الأبية إذا قرعت بمثل هذا التقريع استفرغت الوسع في الإتيان بمثل القرآن أو بمثل سورة منه ولو قدروا على ذلك لأتوا به فحيث لم يأتوا بشيء ظهرت المعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم وبان عجزهم وهم أهل الفصاحة والبلاغة، والقرآن من جنس كلامهم، وكانوا حراصاً على إطفاء نوره وإبطال أمره ثم مع هذا الحرص الشديد لم توجد المعارضة من أحدهم ورضوا بسبى الذراري وأخذ الأموال والقتل وإذا ظهر عجزهم عن المعارضة صح صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا كان الأمر كذلك وجب ترك العناد وهو قوله تعالى: {فاتقوا النار} أي فآمنوا واتقوا بالإيمان النار {التي وقودها} أي حطبها {الناس والحجارة} قال ابن عباس يعني حجارة الكبريت لأنها أكثر التهاباً. وقيل جميع الحجارة وفيه دليل على عظم تلك النار وقوتها. وقيل أراد بها الأصنام لأن أكثر أصنامهم كانت من الحجارة وإنما قرن الناس مع الحجارة لأنهم كانوا يعبد ونها معتقدين فيها أنها تنفعهم وتشفع لهم فجعلها الله عذابهم في نار جهنم {أعدت} أي هيئت {للكافرين} قوله عزّ وجلّ: {وبشر الذين آمنوا} أي أخبر المؤمنين، وهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم. والبشارة إيراد الخبر السار على سامع يستبشر به ويظهر السرور في بشرة وجهه لأن الإنسان إذا فرح بشيء وسر به ظهر ذلك على بشرة وجهه ثم كثر حتى وضع موضع الخير والشر ومنه قوله: {وبشرهم بعذاب أليم} ولكن هو في السرور والخير أغلب {وعملوا الصالحات} أي الفعلات الصالحات وهي الطاعات. قيل العمل الصالح ما كان فيه أربعة أشياء: العلم والنية والصبر والإخلاص. وقال عثمان بن عفان: وعملوا الصالحات أي أخلصوا الأعمال يعني عن الرياء {أن لهم جنات} جمع جنة وهي البستان الذي فيه أشجار مثمرة سميت جنة لاجتنابها وتسترها بالأشجار والأوراق. وقيل: الجنة ما فيه نخيل والفردوس ما فيه كرم {تجري من تحتها} أي من تحت أشجارها ومساكنها {الأنهار} أي تجري المياه في الأنهار لأن الأنهار لا تجري وقيل معناه تجري بأمرهم وفي الحديث «إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود» أي في غير شق والخد الشق {كلما رزقوا} أي أطعموا {منها} أي من الجنة {من ثمرة رزقاً} أي طعاماً {قالوا هذا الذي رزقنا من قبل} أي في الدنيا، وقيل: إن ثمار الجنة متشابهة في اللون مختلفة في الطعم فإذا رزقوا ثمرة بعد أخرى ظنوا أنها الأولى {وأتوا به} أي بالرزق {متشابهاً} قال ابن عباس مختلفاً في الطعوم وقيل يشبه بعضه بعضاً في الجودة لا رداءة فيها وقيل يشبه ثمار الدنيا في الاسم لا في الطعم.
(م) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يبزقون يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس طعامهم جشاء ورشح كرشح المسك» وفي رواية «ورشحهم المسك». قوله: يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس أي يجري على ألسنتهم كما يجري النفس فلا يشغلهم عن شيء كما أن النفس لا يشغل عن شيء قوله طعامهم جشاء، يعني أن فضول طعامهم يخرج في الجشاء وهو تنفس المعدة. والرشح العرق وقوله العرق. وقوله تعالى: {ولهم فيها} أي في الجنات {أزواج} أي من الحور العين {مطهرة} يعني من البول والغائط والحيض والولد وسائر الأقذار وقيل هن عجائزكم الغمص العمش طهرن من قذرات الدنيا وقيل طهرن من مساوي الأخلاق قيل في الجنة جماع ما شئت ولا ولد {وهم فيها خالدون} أي لا يخرجون منها ولا يموتون. والخلد البقاء الدائم الذي لا انقطاع له.
(ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لا يبصقون ولا يمتخطون ولا يتغوطون ولا يبولون أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوّة وأزواجهم الحور العين على خلق رجل واحد على صورة ابيهم آدم ستون ذراعاً في السماء» وفي رواية «لكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم قلب رجل واحد يسبحون الله بكرة وعشياً».
(ق) عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً» عن أبي هريرة قال: «قلت يا رسول الله ممّ الله خلق؟ قال من الماء، قلت الجنة ما بناؤها؟ قال لبنة من فضة ولبنة من ذهب وملاطها المسك الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وتربتها الزعفران من يدخلها ينعم ولا ييأس ويخلد ولا يموت ولا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم» أخرجه الترمذي يزيادة وقال ليس إسناده بذلك القوي. عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس» أخرجه الترمذي.
(م) عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسناً وجمالاً فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً فيقول لهم أهلوهم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً فيقولون وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً» عن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة لمجتمعاً للحور العين يرفعن بأصوات لم تسمع الخلائق مثلها يقلن: نحن الخالدات فلا نبيذ ونحن الناعمات فلا نبأس ونحن الراضيات فلا نسخط طوبى لمن كان لنا وكنا له» أخرجه الترمذي وقال حدث غريب.

.تفسير الآيات (26- 27):

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}
قوله تعالى: {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها} سبب نزول هذه الآية أن الله تعالى لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت وذكر النحل والنمل قالت اليهود. ما أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة. وقيل قال المشركون إنا لا نعبد إلهاً يذكر هذه الأشياء وذلك لأن الكفار كانوا متفقين على إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ذلك، فأنزل الله تعالى: {إن الله لا يستحي} الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم عليه. وقيل هو انقباض النفس عن القبائح هذا أصله في وصف الإنسان، والله تعالى منزه عن ذلك كله فإذا وصف الله تعالى به يكون معناه الترك، وذلك لأن لكل فعل بداية ونهاية، فبداية الحياء هو التغير الذي يلحق الإنسان من خوف أن يكون معناه الترك، وذلك لأن لكل فعل بداية ونهاية، فبداية الحياء هو التغير الذي يلحق الإنسان من خوف أن ينسب إليه ذلك الفعل القبيح، ونهايته ترك ذلك الفعل القبيح، فإذا ورد وصف الحياء في حق الله تعالى فليس المراد منه بدايته وهو التغير والخوف، بل المراد منه ترك الفعل الذي هو نهاية الحياء وغايته فيكون معنى أن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً أي لا يترك المثل لقول الكفار واليهود {ما} قيل {ما} صلة فيكون المعنى أن يضرب مثلاً بعوضة، وقيل ليس هي بصلة بل هي للإبهام والنكرة، والبعوض صغار البق وهو من عجيب خلق الله تعالى فإنه في غاية الصغر وله خرطوم مجوف وهو مع صغره يغوص خرطومه في جلد الفيل والجاموس والجمل فيبلغ منه الغاية حتى أن الجمل يموت من قرصه فما فوقها يعني الذباب والعنكبوت وما هو أعظم منهما في الجثة.
وقيل معناه فما دونها وأصغر منها، وهذا القول أشبه بالآية لأن الغرض بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الصغير الحقير وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً للدنيا بجناح بعوضة وهو أصغر منها، وقد ضربت العرب المثل بالمحقرات، فقيل: هو أحقر من ذرة وأجمع من نملة وأطيش من ذبابة وألح من ذبابة {فأما الذين آمنوا} يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن {فيعلمون أنه} يعني ضرب المثل {الحق} يعني الصدق {من ربهم} الثابت الذي لا يجوز إنكاره لأن ضرب المثل من الأمور المستحسنة في العقل وعند العرب {وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً} أي بهذا المثل {يضل به كثيراً} أي من الكفار وذلك أنهم يكذبونه فيزدادون به ضلالاً {ويهدي به كثيراً} يعني المؤمنين يصدقونه ويعلمون أنه حق {وما يضل به إلاّ الفاسقين} يعني الكافرين وقيل المنافقين.
وقيل اليهود، والفسق الخروج عن طاعة الله وطاعة رسوله ثم وصفهم فقال تعالى: {الذين ينقضون} أي يخالفون ويتركون وأصل النقض الفسخ وفك المركب {عهد الله} أي أمر الله وأصل العهد حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال {من بعد ميثاقه} أي من بعد عقده وتوكيده وفي معنى هذا العهد أقوال أحدها أنه الذي أخذه عليهم يوم الميثاق وهو قوله تعالى: {ألست بربكم قالوا بلى} الثاني المراد به الذي أخذه على إجبار اليهود في التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويبينوا نعته وصفته الثالث المراد به الكفار والمنافقون الذين نقضوا عهداً أبرمه الله تعالى وأحكمه بما أنزل في كتابه من الآيات الدالة على توحيده {ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} يعني الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وجميع الرسل فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وهم اليهود. وقيل أراد به قطع الأرحام التي أمر الله بوصلها {ويفسدون في الأرض} يعني بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن {أولئك هم الخاسرون} أي المغبونون. وأصل الخسار النقص ثم قال تعالى لمشركي العرب على وجه التعجب لكن فيه تبكيت وتعنيف لهم.